منطقة حائل منطلق الهجرات السامية الأولى::
حسب المعلومات المتوفرة الآن فإن من الواضح أن الهجرات السامية الأولى من جزيرة العرب اتجهت إلى غرب شمال الفرات حيث تأكد حتى الآن أن موقع تل المريبط الواقع غرب الفرات ثمانون كيلو مترا شرقي مدينة حلب السورية هو أقدم موقع أثري أقامه مهاجرون من جزيرة العرب قبل أحد عشر ألف سنة من الآن. فمن أين أتى هؤلاء المهاجرون , وكيف ومن هم؟
يجيب على هذه الأسئلة الثلاثة العالم العراقي الدكتور أحمد سوسة في كتابه "حضارة وادي الرافدين" الصفحة 56 فيقول: "هناك شبه إجماع على إن المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب هي الوطن الأصلي للشعوب السامية التي نزحت من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حل بها في إعقاب الدورة الجليدية الرابعة.
وقد توجهت هذه القبائل إلى شمال الجزيرة العربية ومن هناك توزعوا في الهلال الخصيب , وكونوا حضارتهم فيها وفي جملتها حضارة وادي الرافدين الشمالية , أو الحضارة السامية الغربية , وهذه تتميز عن الحضارة السامية الشرقية , أي الاكدية الجنوبية بلهجتها وأسماء العلم لديها . وكان الساميون الغربيون أعظم بأسا وأشد رغبة في التوسع لأنهم كانوا يحصلون على المدد البشري المتزايد من الصحراء كما هي الحال بالنسبة إلى جميع القبائل البدوية , وهم أقرب الى الكنعانيين الذين استوطنوا غربي بلاد الشام.
وهؤلاء هم أقدم وأول المهاجرين من جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب لقدومهم من البادية - بادية الشام - وقد جاءوا إلى شمال وادي الرافدين وهم مزودون بحضارة نهرية وخبرة فنية في حقل الزراعة التي تعتمد على الري واستخدموا هذه الخبرة في ممارسة الزراعة في وطنهم الجديد.
من ذلك يتضح جليا دور منطقة حائل في العصور القديمة فهي أقرب مناطق شبه الجزيرة إلى بادية غرب الفرات ولا يمكن العبور إلى غرب شمال الفرات بالذات إلا من هذه المنطقة.
لمحات تاريخية:: طيء
منطقة حائل وهجرة الطائيين إليها::
تمتد جبال الحجاز شمال المدينة نحو الشمال الشرقي حتى مدينة حائل فتكون منطقة مرتفعة كانت تعرف ببلاد الجبلين ( أجا وسلمى ) أو جبلي طيء وذلك بعد نزوح قبيلة طيء من اليمن إليها , كما يطلق عليها جبل شمر , وذلك نسبة إلى اسم القبيلة التي نزحت بعد ذلك وهي إحدى بطون طيء , حيث ذاعت شهرة حائل فغدت قصبة جبل شمر والحاضرة الأميرية الهامة في بلاد العرب في العصر الحديث.
كانت تسكن هذه المنطقة قبل نزوح قبيلة طيء إليها من العرب البائدة عاد وثمود , يدلنا على ذلك تلك النقوش والحفريات وما عثر عليه من آثار ثمودية بها.
أما وقت هجرة الطائيين إلى نجد ونزولهم الجبلين فقد تضاربت الروايات التاريخية في ذلك , فرواية ابن الكلبي تشير إلى وجود بقايا من بني صحار الذين نزحوا من ارض اليمن ، فهو يذكر انه حينما سار طيء بإبله و ولده حتى نزل الجبلين راى شيخا عظيما جسيما مديد القامة على خلق العاديين ومعه امرأة على خلقه , فسألهما عن أمرهما فأخبر الشيخ انه من بقايا صحار , وأنهم أقاموا بهذين الجبلين عصرا بعد عصر , وعندئذ طلب طيء مشاركة الشيخ الصحاري في ذلك الموضع حتى يكون له مؤنسا وخلا , فوافق الشيخ على ذلك , لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى هلك , فخلص المكان لطيء وولده.
لكن الرواية الأخرى تقول بأن الطائيين عندما نزحوا من واديهم طريب باليمن إلى الجبلين , وجدوا زعيم جديس بعد أن أفلت من ملك حمير حسان بن تبع , وقد أفضى به الهرب حتى لحق بالجبلين قبل نزوح طيء اليهما ، ويرى احد الباحثين أن هرب الاسود بن غفار زعيم الجديسيين كان في أواخر القرن الثاني الميلادي.
ثم تستطرد هذه الرواية التاريخية حيث تشير إلى قيام الطائيين بمحاربة جديس بقيادة زعيمهم الاسود بن غفار والانتصار عليه , وان الذي حاربه لم يكن طيء (جلهمة) ولكنه هو عمرو بن الغوث بن طيء.
وتذكر هذه الرواية سبب نزوح الطائيين وهجرتهم إلى نجد من اليمن فتقول : انه لما تفرق بنو سبأ أيام سيل العرم سار جلهمة نحو تهامة , ثم وقع بينه وبين عمومته ملاحاة ففارقهم وسار نحو الحجاز بأهلة وماله , ومضى يتتبع مواقع القطر - حتى انه سمى طيئا لطيه المنازل - حتى أوغل بأرض الحجاز , فمكث بها فترة ثم نزح منها إلى وادي حائل في إقليم نجد. لم يكن طيئ جلهمة في الواقع معهم في ذلك الوقت , وإنما كان احد أحفاده وهو أسامة بن لؤي هو الذي قادهم إلى ذلك المكان , عندما عثروا على ذلك الوادي بين الجبلين حيث الخصب والنماء والمناخ المناسب , فأجا ذلك الجبل ووادي حائل وهواؤهما كان أطيب الاهوية حينذاك.
كما يصف هشام بن محمد الكلبي هذا الموضع من حيث خصوبة تربته وكثرة أشجاره : فيقول: "والمكان واسع والشجر يانع والماء ظاهر و الكلا عامر" وحيث الخصب والنماء وكثر النخل في الشعاب والمواشي.
وكانت طيء وبطونها تسكن الجوف من أرض اليمن , وكان مسكنهم واديا يدعى طريبا , وفي وادي أذنه بالقرب من مأرب , كما كانت مساكنهم أيضا في وادي يهريق وبيحان , وكانت إذ ذاك إحدى المدن ذات الحضارة القديمة ، كذلك سكنوا قصور براقش وغيرها من المدن في بلاد اليمن السعيد.
والظاهر أن نزوحهم لم يحدث دفعة واحدة على اثر انهيار سد مأرب سنة 115 ق. م , وإنما حدث ذلك على فترة زمنية , وذلك لان هذا السد قد تعرض للعديد من الانهيارات , وما كانوا يعانونه من سوء الأحوال في أعقاب انهيار في كل مرة , مما كان يدفع بالطائيين وغيرهم إلى التخلي عن مواطنهم حيث الأودية والمناطق الخصبة في كل من الجوف وبيجان واذنه وطريب , وهجرتهم نحو الشمال.
ومن خير الأدلة على ذلك أن هجرتهم هذه لم تقتصر على منطقة حائل وحدها , وإنما كما يذكر الهمداني كان نزوحهم بعد ذلك إلى جهة تيماء والى دومة الجندل من إقليم الحجاز.
وكذلك ما كان من شيوع ذكر طيء خلال القرن الثالث الميلادي في كل من نجد والحجاز , حتى صارت طيء ترادف كلمة العرب في سائر أنحاء الجزيرة عند الفرس والسريان وغيرهم من الأمم المعاصرة.
ومما يدعم ذلك الرأي انه لم تكن إحدى بطون طيء لتقوى على انتزاع بلاد الجبلين من بني اسد وفقا لرواية ابن خلدون , لولا غلبة تلك البطون الطائية وانتشارها في تلك المناطق والجهات , وهكذا تظهر أهمية تلك الهجرة الكبرى الأخيرة بقيادة أسامة بن لؤي إلى الجبلين , وكان سيد طيء آنذاك.
كما تفيد رواية ابن خلدون أن نزول كل من بني فطرة وبني الغوث كان في فيد ، وفي سميراء في جوار بني اسد أولا , ثم صارت لهم الغلبة على هذه القبيلة فكان نزولهم عندئذ في أجا وسلمى ووادي حائل واستقرارهم بعد ذلك فيها.
ويذكر أبو عبيد السكوني أن أجا نزلت به ثعل احد بطون طيء , وان سائر بني الغوث وبني نبهان كان نزولهم بسفح سلمى , أما بنو جديلة البطن الثالث من بطون طيء فلم يكن لهم في الجبلين نصيب , يتضح ذلك من رواية ابي عبيدة عندما اشترط عمرو بن الغوث حينما صارع زعيم جديس فقتله , وهكذا نزلت جديلة السهل أو الوادي بين الجبلين.
وقد أطلق ابن الكلبي على هذا الوادي اسم حائل , ولم تمض فترة من الزمن حتى شاع ذكرها على بلاد طيء جميعها , ويشير إلى ذلك الهمداني عند حديثة عن الريان احد قمم جبال أجا فيذكر أن في أسفله أدنى مياه حائل , وكما يصف القرية حائل فيقول: "هو بلد مثل يد المصافح يرى فيه الراكب من مسافة نصف نهار في وسطه رملة يقال لها رملة الاطهار".
ومن الواضح أن حائل لم يكن لها شأن يذكر قبل نزول الطائيين بواديها , واستحواذهم على السهل والجبل , حيث ارتبط اسمها بأمجادهم وأيامهم , وان غلب عليها اسم الجبلين ( أجا وسلمى ) أو جبلي طيء.
لم تكن حائل هي الموطن الوحيد للبطون الطائية بطبيعة الحال بل كانت خلال العصر الجاهلي هناك مواطن أخرى لها أقدم منها مثل فيد وسميراء والاجفر التي نزلوا بها قبل غيرها من المنازل , وقد حظيت بالشهرة مثل مدينة فيد منذ العصر الجاهلي.
^----------------------
أيام الطائيين مع قبائل العرب الأخرى::
كان من أهم تلك الحروب إلى خاضتها قبائل طيء ما وقع بينها وبين قبيلة اسد المجاورة لها , فقد عملت تلك القبائل منذ نزولها على التوسع والاستيلاء على مواضع الكلأ والماء , فمن ذلك محاولة الطائيين امتلاك "الحساء" المنسوب إلى ريث , وعلى موضع آخر يسمى قراقر , يقول عنه ياقوت: وهو قاع ينتهي إلى وادي حائل تسيل إليه أودية ما بين الجبلين , وكان منزلا يقع إلى الطريق المتجه إلى مكة حيث كانت تدعية كل من اسد و طيء كما يذكر البكري. موضعا ثالثا كان محل نزاع يسمى "ظلامة" وهي قرية أخذتها اسد من بني نبهان القبيلة الطائية فسموها ظلامة لأنهم أخذوها ظلما.
كانت الغارة والحرب سجالا بين الطرفين حيث كانا يتعاقبان النصر والهزيمة ,حتى اجتمعت غطفان واسد كما يقول الطبري: "فأزاحوها عن دارها في الجاهلية غوثها وجديلتها فَكره ذلك عوف - وهو ذو الخمارين عوف الجزمي - وقطع ما بينه وبين غطفان وتتابع الحيان على الجلاء , وأرسل عوف إلى الحيين من طيء فأعاد حلفهما وقام بنصرتهم فرجعوا إلى دورهم".
وقد أعقب ذلك أن بذلت شيوخ اسد جهودهم في سبيل الصلح وعقد حلف مع طيء , فتم ذلك في عداد الجيرة أو الجوار و أصبح يقال لبني اسد وطيء الحليفان وذلك بعد حروب لم تدم طويلا بينهم وكما يقول القلقشندي: "بعد أن ملكت طيء ديار بني اسد الواقعة من جهة الشرق والجنوب من الجبلين بعد أن كانوا نازلين بها ".
كان من اشهر أيام العرب التي وقعت بين الطائيين وبني اسد بعد عقدهم الحلف بينهم يوم ظهر الدهناء , وكان سبب العودة إلى نشوب الحرب , أن بشر ابن ابي حازم الاسدي كان قد هجا اوس بن حارثة , فطلبه اوس فلجأ الى قومه بني اسد , فرأوا أن تسليمه من العار عليهم فأبوا ذلك , فجمع لهم اوس وكان سيدا مطاعا في قومه من بني جديلة وبني رومان حيث تلاقيا بظهر الدهناء , فأوقع بهم أوس وظفر بهاجية بشرا بعد أن تمكن من قتل الكثيرين منهم.
ومن الأيام التي تذكرها مصادر التاريخ والأدب ما وقع بين قبيلة عنترة العبسي والطائيين , فقد تعاقبت بينهم الغارات والحروب , والتي كان من أهمها تلك الغارة التي شنها بنو ثعلبة من بقية جديلة على بني عبس , وأدت إلى قتل عنتر بن شداد العبسي. وقد بلغ من شهرته حينذاك في أعمال الغزو والقتال شأن بعيد , حيث ظل بنو رومان الطائيين يفخرون بذلك فترة طويلة.
ومن الجدير بالذكر أن تفاخر طيء بقتلها عنتر , لم يكن مثيرا للعصبية التي عرفت بعد ذلك بين عرب الجنوب وبين عرب الشمال العدنانين , فقد أشارت المصادر إلى تحالف كل من بني جديلة مع بني شيبان والى محاربتهما عبس في ذلك الوقت.
كما يذكر ابن الاثير من أيام العرب يوم النسار , وكانت طيء قد تحالفت مع كل من اسد وغطفان على بني عامر آنذاك , فكان لقاؤهم بالنسار بين تلك الجبال التي عرفت بذلك , حيث قاتلوا بني عامر قتالا شديدا , فكان أن غضبت تميم , لما نزل بهم , فتحالفوا معهم , حتى لقوا طيء ومن حالفها في يوم الجفار بعد ذلك , فقاتلت طيء اشد ما قاتلت مع عامر يوم النسار.
ولم تكن قبائل طيء لتسكت عن هزيمتها , فقد نهض زيد الخيل بن مهلهل الطائي المشهور يومئذ , فجمع أخلاطا من بطونهم وجموعا أخرى من الصعاليك , فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من العرب , ويصف الاصفهاني نقلا عن ابي عمرو الشيباني تلك المعركة بعد أن سار إليهم زيد الخيل فيقول: فصبحهم من طلوع الشمس فاستعدوا له وفزعوا إلى الخيل فركبوا , فكان أول من غدر بهم , فلقى جموعهم من بني غنى بني اعصر فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم حلت الهزيمة ببني عامر فاستحر القتل بعد ذلك بغنى , فكان من بين قتلاهم الفرسان والشعراء.
وقد اشتهر زيد الخيل النبهاني بالشجاعة والفروسية , قبيل ظهور الاسلام , ومما يذكره الاصفهاني أن عامر بن الطفيل سيد بني عامر أغار على بني فزارة , واستاق نعما لهم كما اسر امرأة منهم , فلما أدركه زيد الخيل برز له عامر , فطلب منه رد النعم التي حصل عليها , وخيرة بين ترك الغنيمة أو قتاله , فتخلى عن الظعينة والنعم في مقابل إطلاق سراحه ، يقول الاصفهاني: فقبل زيد بذلك الشرط فجز ناصيته واخذ رمحه واخذ الظعينة والنعم فردها إلى بني بدر الفزاريين وبطبيعة الحال فما كانت غنى لتبقى على هزيمتها حيث عملت على جمع لفيف من بني عامر قبيلتها فغزوا طيئا وقتلوا وأدركوا ثأرهم منها.
ولما علمت بنو عامر بما جرى لسيدهم نحوه عن رئاستهم وأقاموا عليهم علقمة بن علاثة بدلا من ابن الطفيل , وخرجوا لقتال بني نبهان قوم زيد , ومعهم الشاعران المعروفان الحطيئة وكعب بن زهير. ولما علم زيد بذلك جمع قومه فلقيهم بالمضيق فقاتلهم وأوقع بهم الهزيمة , وتم اسر الشاعرين وقوما معهم , فطلبوا قبول الفداء فيهم.
ومن أعمال الغزو والغارة التي قامت بها قبائل طيء بعد أن أصبحت من الكثرة بمنطقة حائل , حتى صار كل بطن منهم يغزو بمفرده بعد أن غدا قبيلة مستقلة , منها ما وقع بين قبيلة نبهان وقيامها بغزوة فزارة , وقد حاربت فزارة حتى كادت الهزيمة تحل بالنبهانين لولا شجاعة زيد الخيل , وقد انضمت إلى فزارة قيس من بني سليم فهزموهم , ثم حمل زيد الخيل على فزارة بعد ذلك ومن حالفها فأوقع بهم الهزيمة , يقول زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجا وسلمى تخب نزائفا خيب الركـــــاب
جلبنـا كـل طـرف اعـوجــــي وسلهبة كحافية الغـــــراب
كنسـوف للـحزام بـمـرفقيها شنون الصلب صماء الكعاب
ومن اشهر تلك الغارات التي حدثت بين بني الغوث إحدى قبائل طيء وبين بكر بن وائل القبيلة العربية المعروفة , فقد حدث أن أغار حاتم بن عبدالله الطائي على راس جيش من قومه , واشتد القتال بينهم ولكن الهزيمة حاقت بهم وقتل منهم الكثير , كما تم اسر جماعة منهم وكان حاتم من بينهم وبقي في الأسر حتى تم فداؤه.
^----------------------
حرب الفساد بين قبائل الطائيين::
نشبت هذه الحرب بين قبيلة الغوث وبين جديلة , وتعاقبت بينهم حتى طال أمدها وبلغت مائة وثلاثين عاما حيث يذكر المسعودي إنها لم تكن حربا كسائر الحروب.
أدى ذلك إلى نزوح بني جديلة إلى بلاد الشام , وقد عرفت تلك الجهة التي نزحوا إليها بحاضر طيء , ويشير البلاذري إلى ذلك الموضع بالشام فيقول: انه بعد حرب الفساد التي وقعت بينهم حين نزلوا الجبلين فتفرق منهم سائر بني فطرة وتفرق باقون منهم في البلاد حيث لحقوا بحاصر قنسرين من إعمال حلب وخالطوا هناك الأسباط وغيرهم وتزوجوا منهم.
أما ابن حزم فهو يحدد تلك البطون التي نزحت من قبيلة جديلة الطائية من بلاد الجبلين إلى الشام فيقول: "وجلوا كلهم عن الجبلين في حرب الفساد , فلحقوا بحلب وحاضر طيء , حاشا بني رومان بن جندب بن سعد بن فطرة فبقوا في الجبلين".
وهكذا لم يبق من جديلة إلا بنو رومان بمنطقة حائل , وكان من اشهرهم تيم بن ثعلبة , وكان يقال لبنيه بعدها مصابيح الظلام ومنهم السيد المشهور اوس بن حارثة بن لأم ممن سبقت الإشارة إلى زعامته في حربهم مع قبيلة اسد وانتصاره عليهم.
وقد لعب ملك الغساسنة الحارث بن جبلة دورا في إصلاح ذات البين بين جديلة والغوث , حتى توقفت الحروب بينهما , فلما مات عادت تلك القبائل إلى حربها من جديد , فكان يوم "اليحاميم" بينهم من اشهر أيام العرب , يصف ابن الاثير أحداث هذا اليوم فيقول: فالتقت جديلة والغوث بموضع يقال له "غرثان" فقتل قائد بني جديلة وهو اسبع بن عمرو لأم.
كما شهد عدي بن حاتم هذا اليوم وكان زيد الخيل يعمل على وقف القتال والتداعي إلى الصلح بينهم يقول عدي: "واني لواقف يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذ نظرت إلى زيد الخيل قد احضر ابنيه مكنفا وحريثا في شعب لا منفذ له وهو يقول: "أي بني ابقيا على قومكما فان اليوم يوم التفاني , فان يكن هؤلاء أعماما فهؤلاء أخوال".
وقد دارت الحرب يومئذ على "مناع" إحدى مواضع أجا , حين أقبلت قبائل الغوث كل قبيلة عليها رئيسها منهم زيد الخيل وحاتم بن عبدالله الطائي الجواد , حيث التقوا بجديلة بعد اجتماعها على اوس بن حارثة , وقد اقتتلوا يومئذ قتالا شديدا فانهزمت جديلة وقتل منها الكثير.
ولم يحضر حاتم بن عبدالله الطائي هذه الحرب فكان مجاورا لبني بدر من جيرانهم آنذاك وكان من جراء يوم اليحاميم أن نزحت بقية جديلة من حائل , يقول ابن الاثير: "ولم تبق لجديلة بقية للحرب بعد يوم اليحاميم , فدخلوا بلاد كلب فحالفوهم وأقاموا معهم".
^----------------------
علاقة الطائيين بالمناذرة في الحيرة::
ارتبطت قبائل طيء في الجبلين برابطة الدم والعصبية بإخوانهم الذين نزحوا إلى الحيرة فنزلوها منذ القرن الثالث الميلادي حيث شاركوا في تأسيسها.
ويذكر ابن الكلبي أن ملك الحيرة عمرو بن المنذر عقد حلفا مع الطائيين على أساس ألا ينازعوا في أرضهم ولا يغزوا ولا يفاخروا عليهم , ولكنه حدث أن خرج عمرو لغزو اليمامة , فلم يصب منها شيئا , وفي طريق عودته , مر بمنازل طيء , فشجعه احد رجالات بني تميم زرارة بن عدس على غزوها والنيل منها قائلا له: "لا ينبغي لأي ملك إذا غزا أن يرجع ولم يصب فمل على طيء فانك بحيالها ".
استجاب الملك لرأيه , فمال إليهم فأسر وقتل منهم وغنم , فما لبث بعد رجوعه إلى الحيرة أن اخذ عمرو بن ملقط الطائي يحرض الملك على زرارة التميمي , وهكذا عملت قبائل طيء على الثأر من تميم لما جرى من زعيمها زرارة , وكان عمرو بن المنذر قد ترك ابنا له عنده , فلما شب رمى بضرع ناقته , فكان أن شد عليه احد رجال تميم فقتله وهرب.
انتهزت طيء الفرصة , وأخذت تحرض ملك الحيرة عليهم والخروج معهم حتى اقسم ليقتلن منهم مائة إن ظفر بهم , وسار في طلبهم حتى بلغ أوارة , وكان عمرو بن ملقط على مقدمة جيشه آنذاك , حيث قاتلوهم وانتصروا عليهم , وتمكنوا من اسر الكثير منهم , يقول ابن الاثير: "فأتوه (يعني الملك) بتسع وتسعين رجلا سوى من قتلوه في غارتهم فقتلهم" ، وهكذا ثأرت طيء لنفسها من تميم وصار يوم اوارة الثاني من أيام العرب المشهورة.
عادت بعدها علاقة الطائيين إلى سابق العهد من المودة والحلف مع ملوك الحيرة , فصار شيوخهم ورؤساهم يفدون إلى الحيرة فينالون من الحظوة والمكانة لديهم.
وفي عهد النعمان بن المنذر عمل كسرى فارس على إخضاع منطقة حائل في نجد لسلطانه , فأرسل إلى النعمان فاستجاب لطلبه وسيّر جيشا إليهم بعد أن شجعه احد الطائيين وهو اوس بن سعد حيث قال له: "أنا أدخلك بين جبلي طيء حتى يدين لك أهلها".
ولكن بني سنبس من قبيلة الغوث قبلوا التحدي ورفضوا دخول جيش ملك الحيرة بلادهم , فاستعدوا لمنازلة أعدائهم , كما تجهز حاتم الطائي مع قومه بني اخزم للقاء المغيرين عليهم , وكانوا يجاورون إخوانهم السنبسين من جهة الشمال , يقول حاتم في موقف اوس الطائي المتخاذل يومئذ:
و لقد بقي بجلاد اوس قومه ذلا وقد علمت بذلك سنبس
حاشا بني سنبس انهــــم منعوا زمار ابيهم ان يدنســوا
وتواعدوا ورد القرية غــــدوة وحلفت بالله العزيز لنحبـــس
وهكذا وقف بنو سنبس مع بني أخزم قوم حاتم ضد هؤلاء المغيرين فحالوا دون تحقيق السيطرة عليهم , ولم يقبلوا بالخضوع لسلطان المناذرة أو الفرس ولعل فشل النعمان في تحقيق أهداف كسرى فارس كان احد تلك الأسباب الهامة التي أدت إلى غضب كسرى , فلم يلبث أن أرسل في استدعائه إلى عاصمة ملكة بالمدائن حينذاك.
وعلى الرغم من تلك العلاقة التي كانت تربطه مع الطائيين , إلا انه عندما طلب منهم أن يمنعوه فأبوا عليه لا خوفا من كسرى ولكن لأمور سياسية أخرى ، فأقبل حتى نزل بني شيبان في ذي قار سرا حيث لقي هانئ بن مسعود الشيباني , فأودعه أهله وماله , وتوجه إلى المدائن وقد بعث ملك الفرس إليه من قيده وأرسله إلى خانقين لحبسه فيها , وكان موته قبل الإسلام فلما مات استعمل كسرى اياس بن قبيصة الطائي على الحيرة.
^----------------------
علاقة شيوخ طيء بالغساسنة::
كان يسكن بلاد الشام عناصر اغلبها عربية منذ العصور القديمة , حيث نزحت من داخل الجزيرة مثل العمورين أو التعمرين والكنعانيين والانباط , كما نزحت قبل الإسلام إليها من قبائل كلب وغسان وعذرة وجذام وغيرها, حتى صارت تكون غالبية سكان الشام.
ومن أهم القبائل التي نزحت إليها إبان حرب الفساد التي اشرنا إليها كانت جديلة التي نزحت نحو قنسرين وحلب من أرض الشام فصارت تعرف بحاضر طيء.
وكما يذكر ياقوت فتنه لم يبق من جديلة إلا بني رومان , حيث نزح جلهم إلى الشام , أما ابن الاثير فأنه يشير إلى أن البقية الباقية منهم كان نزوحها بعد هزيمتهم في يوم اليحاميم المذكور. وهكذا أقامت تلك البطون الطائية بأرض الغساسنة في الشام.
وتتضح علاقة الغساسنة مع الطائيين في الجبلين في اهتمامهم الدائم بما كان يجري بينهم من غارات وحروب , والعمل على إيقافها ومحاولة الإصلاح بينهم , فمن ذلك ما بذله الملك الغساني الحارث بن جبلة في سبيل رأب الصدع بين القبائل الطائية وقد نجح في ذلك , لكن بعد وفاته عادت الحروب بينهم.
كما تبدو العلاقة الوثيقة قبيل ظهور الإسلام بهؤلاء الطائيين , وذلك عندما اتجه كثير منهم إلى اعتناق النصرانية والتي انتشرت في بلاد الشام آنذاك , يتجلى ذلك في حديث عدي بن حاتم وقوله: "كنت ملك طيء آخذ منهم المرباع وأنا نصراني , فلما قدمت خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم هربت إلى الشام , وقلت الحق بأهل ديني من النصارى فلما قدمت الشام أقمت بها".
كما تتضح مظاهر هذه العلاقة الحسنة بالملك الغساني في قيامه بإهداء سيفين إلى الفلس صنم طيء المعروف وقد بقيا معلقين به في مكانه , حيث كان ذلك منصوبا بالحبس.
^----------------------
علاقة الطائيين بملوك كنده في نجد::
قدم حجر بن عمرو المعروف بأكل المرار إلى نجد ونزل ببطن عاقل , وكان اللخميون في الحيرة قد ملكوا من تلك البلاد ولا سيما بلد بكر بن وائل , فنهض حجر بهم وحارب اللخميين وأنقذ أرض بكر منهم , وقد استطاع أن ينتزع جانبا من تلك النوايى التي كانت تحت سيطرة اللخميين المناذرة.
سار النضر في ركاب ابنه الحارث , حيث كتب له النجاح في توسيع مملكة كنده في نجد , وبلغ من قوته انه تمكن من ضم إمارة الحيرة , وان يجلس على عرش المناذرة وذلك في النصف الأول من القرن السادس الميلادي.
وعلى الرغم من محاولته غزو بلاد الشام , إلا أنه لم يسع نحو غزو بلاد الجبلين القريبة منه , كما حاول النعمان بن المنذر وقد أصبحت سائر القبائل تهاب ملك كنده وتستنجد به , يذكر ابن الاثير انه لما أصاب بنو عامر من تميم فأنهم دعوه أن يغزو معهم , فكان أن وقع ذلك اليوم المعروف "بيوم ذي نجب" من أيام العرب.
ولما سار حجر بن الحارث ديار بني اسد بعد ذلك في جنوب جبلي طيء تمكن من التغلب عليهم فقتل الكثير من أشرافهم , واسر بعضهم , مما ترك الأثر السيئ في نفوس القوم , وعقدوا العزم على الانتقام منه , وما لبثوا أن نفذوا وعيدهم حيث تمكنوا من قتله.
وتتضح علاقة كنده مع الطائيين عندما لجأ امرؤ القيس بعد مقتل أبيه إلى قبائل العرب الأخرى لنجدته وفي مساعدته على الأخذ بثأر أبيه , والانتقام من بني اسد , وكان هؤلاء في حلف مع قبائل طيء.
فقد سار امرؤ القيس نحو بلاد الجبلين حيث نزل على المعلى بن تميم من بني ثعلبة , ثم على شيخ بني اخزم من ثعل , وبني عمه عمرو بن ربيعة من سكان أجا آنذاك.
كذلك كان نزول الشاعر الكندي المعروف على بني جرم وزعيمهم ثعلبة بن عمرو بن الغوث , وهكذا ظل يتنقل أمير كنده امرؤ القيس بين قبائل طيء وشيوخها عساه يجد عونا منهم على قتلت أبيه , ولكنة لم يوفق في مسعاه.
وعلى العكس من ذلك فقد حدث أن أغار احد أفراد بني لأم على إبله , ويذكر ابن الأثير أن الذين أغاروا على إبله قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد فأخذوها منه , وكان بنو ثعل على ما يبدو حماة إبله آنذاك , يتضح ذلك من شعره في تلك المناسبة:
تبيت لبوني بالقرية امنـا واسرحها غبا بأكناف حائـل
بنو ثعل جيرانها وحماتها وتمنع من رماة سعد ونائل
كما يتضح من رواية ابن الاثير أن الحرب وقعت بين قبائل طيء بسبب امرؤ القيس , وخاصة بعد أن انتقل إلى رجل من بني ثعل يقال له حارثه بن مر , فهو يصف موقفهم حينذاك قائلا: "وكانت أمور كبيرة , فلما راى امرؤ القيس أن الحرب قد وقعت بسببه خرج من عندهم" ، ولا شك أن الطائيين لم يكن في صالحهم إذ ذاك تقديم يد العون له , ففي ذلك ما كان يثير حفيظة المنذر ملك الحيرة عليهم فيعمد إلى غزو بلادهم , لا سيما وانه لم يكن قد مضى من الوقت الكثير عندما راح المنذر ينتقم من ملك كنده حيث التقى بهم فيما عرف بيوم "اوارة الأول"وقد وقع قبل يوم "اوارة الثاني" ، ويمكن القول بان الطائيين كانوا يعملون على حرية بلادهم وعدم وقوعها تحت سيطرة المناذرة أو غيرهم من القوى التي كانت تسعى في سبيل إخضاع المنطقة كالفرس , وذلك في أعقاب نزولهم سميراء وفيد في جوار بني اسد واستقرارهم في الجبليين منذ القرن الثالث الميلادي.
حسب المعلومات المتوفرة الآن فإن من الواضح أن الهجرات السامية الأولى من جزيرة العرب اتجهت إلى غرب شمال الفرات حيث تأكد حتى الآن أن موقع تل المريبط الواقع غرب الفرات ثمانون كيلو مترا شرقي مدينة حلب السورية هو أقدم موقع أثري أقامه مهاجرون من جزيرة العرب قبل أحد عشر ألف سنة من الآن. فمن أين أتى هؤلاء المهاجرون , وكيف ومن هم؟
يجيب على هذه الأسئلة الثلاثة العالم العراقي الدكتور أحمد سوسة في كتابه "حضارة وادي الرافدين" الصفحة 56 فيقول: "هناك شبه إجماع على إن المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب هي الوطن الأصلي للشعوب السامية التي نزحت من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حل بها في إعقاب الدورة الجليدية الرابعة.
وقد توجهت هذه القبائل إلى شمال الجزيرة العربية ومن هناك توزعوا في الهلال الخصيب , وكونوا حضارتهم فيها وفي جملتها حضارة وادي الرافدين الشمالية , أو الحضارة السامية الغربية , وهذه تتميز عن الحضارة السامية الشرقية , أي الاكدية الجنوبية بلهجتها وأسماء العلم لديها . وكان الساميون الغربيون أعظم بأسا وأشد رغبة في التوسع لأنهم كانوا يحصلون على المدد البشري المتزايد من الصحراء كما هي الحال بالنسبة إلى جميع القبائل البدوية , وهم أقرب الى الكنعانيين الذين استوطنوا غربي بلاد الشام.
وهؤلاء هم أقدم وأول المهاجرين من جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب لقدومهم من البادية - بادية الشام - وقد جاءوا إلى شمال وادي الرافدين وهم مزودون بحضارة نهرية وخبرة فنية في حقل الزراعة التي تعتمد على الري واستخدموا هذه الخبرة في ممارسة الزراعة في وطنهم الجديد.
من ذلك يتضح جليا دور منطقة حائل في العصور القديمة فهي أقرب مناطق شبه الجزيرة إلى بادية غرب الفرات ولا يمكن العبور إلى غرب شمال الفرات بالذات إلا من هذه المنطقة.
لمحات تاريخية:: طيء
منطقة حائل وهجرة الطائيين إليها::
تمتد جبال الحجاز شمال المدينة نحو الشمال الشرقي حتى مدينة حائل فتكون منطقة مرتفعة كانت تعرف ببلاد الجبلين ( أجا وسلمى ) أو جبلي طيء وذلك بعد نزوح قبيلة طيء من اليمن إليها , كما يطلق عليها جبل شمر , وذلك نسبة إلى اسم القبيلة التي نزحت بعد ذلك وهي إحدى بطون طيء , حيث ذاعت شهرة حائل فغدت قصبة جبل شمر والحاضرة الأميرية الهامة في بلاد العرب في العصر الحديث.
كانت تسكن هذه المنطقة قبل نزوح قبيلة طيء إليها من العرب البائدة عاد وثمود , يدلنا على ذلك تلك النقوش والحفريات وما عثر عليه من آثار ثمودية بها.
أما وقت هجرة الطائيين إلى نجد ونزولهم الجبلين فقد تضاربت الروايات التاريخية في ذلك , فرواية ابن الكلبي تشير إلى وجود بقايا من بني صحار الذين نزحوا من ارض اليمن ، فهو يذكر انه حينما سار طيء بإبله و ولده حتى نزل الجبلين راى شيخا عظيما جسيما مديد القامة على خلق العاديين ومعه امرأة على خلقه , فسألهما عن أمرهما فأخبر الشيخ انه من بقايا صحار , وأنهم أقاموا بهذين الجبلين عصرا بعد عصر , وعندئذ طلب طيء مشاركة الشيخ الصحاري في ذلك الموضع حتى يكون له مؤنسا وخلا , فوافق الشيخ على ذلك , لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى هلك , فخلص المكان لطيء وولده.
لكن الرواية الأخرى تقول بأن الطائيين عندما نزحوا من واديهم طريب باليمن إلى الجبلين , وجدوا زعيم جديس بعد أن أفلت من ملك حمير حسان بن تبع , وقد أفضى به الهرب حتى لحق بالجبلين قبل نزوح طيء اليهما ، ويرى احد الباحثين أن هرب الاسود بن غفار زعيم الجديسيين كان في أواخر القرن الثاني الميلادي.
ثم تستطرد هذه الرواية التاريخية حيث تشير إلى قيام الطائيين بمحاربة جديس بقيادة زعيمهم الاسود بن غفار والانتصار عليه , وان الذي حاربه لم يكن طيء (جلهمة) ولكنه هو عمرو بن الغوث بن طيء.
وتذكر هذه الرواية سبب نزوح الطائيين وهجرتهم إلى نجد من اليمن فتقول : انه لما تفرق بنو سبأ أيام سيل العرم سار جلهمة نحو تهامة , ثم وقع بينه وبين عمومته ملاحاة ففارقهم وسار نحو الحجاز بأهلة وماله , ومضى يتتبع مواقع القطر - حتى انه سمى طيئا لطيه المنازل - حتى أوغل بأرض الحجاز , فمكث بها فترة ثم نزح منها إلى وادي حائل في إقليم نجد. لم يكن طيئ جلهمة في الواقع معهم في ذلك الوقت , وإنما كان احد أحفاده وهو أسامة بن لؤي هو الذي قادهم إلى ذلك المكان , عندما عثروا على ذلك الوادي بين الجبلين حيث الخصب والنماء والمناخ المناسب , فأجا ذلك الجبل ووادي حائل وهواؤهما كان أطيب الاهوية حينذاك.
كما يصف هشام بن محمد الكلبي هذا الموضع من حيث خصوبة تربته وكثرة أشجاره : فيقول: "والمكان واسع والشجر يانع والماء ظاهر و الكلا عامر" وحيث الخصب والنماء وكثر النخل في الشعاب والمواشي.
وكانت طيء وبطونها تسكن الجوف من أرض اليمن , وكان مسكنهم واديا يدعى طريبا , وفي وادي أذنه بالقرب من مأرب , كما كانت مساكنهم أيضا في وادي يهريق وبيحان , وكانت إذ ذاك إحدى المدن ذات الحضارة القديمة ، كذلك سكنوا قصور براقش وغيرها من المدن في بلاد اليمن السعيد.
والظاهر أن نزوحهم لم يحدث دفعة واحدة على اثر انهيار سد مأرب سنة 115 ق. م , وإنما حدث ذلك على فترة زمنية , وذلك لان هذا السد قد تعرض للعديد من الانهيارات , وما كانوا يعانونه من سوء الأحوال في أعقاب انهيار في كل مرة , مما كان يدفع بالطائيين وغيرهم إلى التخلي عن مواطنهم حيث الأودية والمناطق الخصبة في كل من الجوف وبيجان واذنه وطريب , وهجرتهم نحو الشمال.
ومن خير الأدلة على ذلك أن هجرتهم هذه لم تقتصر على منطقة حائل وحدها , وإنما كما يذكر الهمداني كان نزوحهم بعد ذلك إلى جهة تيماء والى دومة الجندل من إقليم الحجاز.
وكذلك ما كان من شيوع ذكر طيء خلال القرن الثالث الميلادي في كل من نجد والحجاز , حتى صارت طيء ترادف كلمة العرب في سائر أنحاء الجزيرة عند الفرس والسريان وغيرهم من الأمم المعاصرة.
ومما يدعم ذلك الرأي انه لم تكن إحدى بطون طيء لتقوى على انتزاع بلاد الجبلين من بني اسد وفقا لرواية ابن خلدون , لولا غلبة تلك البطون الطائية وانتشارها في تلك المناطق والجهات , وهكذا تظهر أهمية تلك الهجرة الكبرى الأخيرة بقيادة أسامة بن لؤي إلى الجبلين , وكان سيد طيء آنذاك.
كما تفيد رواية ابن خلدون أن نزول كل من بني فطرة وبني الغوث كان في فيد ، وفي سميراء في جوار بني اسد أولا , ثم صارت لهم الغلبة على هذه القبيلة فكان نزولهم عندئذ في أجا وسلمى ووادي حائل واستقرارهم بعد ذلك فيها.
ويذكر أبو عبيد السكوني أن أجا نزلت به ثعل احد بطون طيء , وان سائر بني الغوث وبني نبهان كان نزولهم بسفح سلمى , أما بنو جديلة البطن الثالث من بطون طيء فلم يكن لهم في الجبلين نصيب , يتضح ذلك من رواية ابي عبيدة عندما اشترط عمرو بن الغوث حينما صارع زعيم جديس فقتله , وهكذا نزلت جديلة السهل أو الوادي بين الجبلين.
وقد أطلق ابن الكلبي على هذا الوادي اسم حائل , ولم تمض فترة من الزمن حتى شاع ذكرها على بلاد طيء جميعها , ويشير إلى ذلك الهمداني عند حديثة عن الريان احد قمم جبال أجا فيذكر أن في أسفله أدنى مياه حائل , وكما يصف القرية حائل فيقول: "هو بلد مثل يد المصافح يرى فيه الراكب من مسافة نصف نهار في وسطه رملة يقال لها رملة الاطهار".
ومن الواضح أن حائل لم يكن لها شأن يذكر قبل نزول الطائيين بواديها , واستحواذهم على السهل والجبل , حيث ارتبط اسمها بأمجادهم وأيامهم , وان غلب عليها اسم الجبلين ( أجا وسلمى ) أو جبلي طيء.
لم تكن حائل هي الموطن الوحيد للبطون الطائية بطبيعة الحال بل كانت خلال العصر الجاهلي هناك مواطن أخرى لها أقدم منها مثل فيد وسميراء والاجفر التي نزلوا بها قبل غيرها من المنازل , وقد حظيت بالشهرة مثل مدينة فيد منذ العصر الجاهلي.
^----------------------
أيام الطائيين مع قبائل العرب الأخرى::
كان من أهم تلك الحروب إلى خاضتها قبائل طيء ما وقع بينها وبين قبيلة اسد المجاورة لها , فقد عملت تلك القبائل منذ نزولها على التوسع والاستيلاء على مواضع الكلأ والماء , فمن ذلك محاولة الطائيين امتلاك "الحساء" المنسوب إلى ريث , وعلى موضع آخر يسمى قراقر , يقول عنه ياقوت: وهو قاع ينتهي إلى وادي حائل تسيل إليه أودية ما بين الجبلين , وكان منزلا يقع إلى الطريق المتجه إلى مكة حيث كانت تدعية كل من اسد و طيء كما يذكر البكري. موضعا ثالثا كان محل نزاع يسمى "ظلامة" وهي قرية أخذتها اسد من بني نبهان القبيلة الطائية فسموها ظلامة لأنهم أخذوها ظلما.
كانت الغارة والحرب سجالا بين الطرفين حيث كانا يتعاقبان النصر والهزيمة ,حتى اجتمعت غطفان واسد كما يقول الطبري: "فأزاحوها عن دارها في الجاهلية غوثها وجديلتها فَكره ذلك عوف - وهو ذو الخمارين عوف الجزمي - وقطع ما بينه وبين غطفان وتتابع الحيان على الجلاء , وأرسل عوف إلى الحيين من طيء فأعاد حلفهما وقام بنصرتهم فرجعوا إلى دورهم".
وقد أعقب ذلك أن بذلت شيوخ اسد جهودهم في سبيل الصلح وعقد حلف مع طيء , فتم ذلك في عداد الجيرة أو الجوار و أصبح يقال لبني اسد وطيء الحليفان وذلك بعد حروب لم تدم طويلا بينهم وكما يقول القلقشندي: "بعد أن ملكت طيء ديار بني اسد الواقعة من جهة الشرق والجنوب من الجبلين بعد أن كانوا نازلين بها ".
كان من اشهر أيام العرب التي وقعت بين الطائيين وبني اسد بعد عقدهم الحلف بينهم يوم ظهر الدهناء , وكان سبب العودة إلى نشوب الحرب , أن بشر ابن ابي حازم الاسدي كان قد هجا اوس بن حارثة , فطلبه اوس فلجأ الى قومه بني اسد , فرأوا أن تسليمه من العار عليهم فأبوا ذلك , فجمع لهم اوس وكان سيدا مطاعا في قومه من بني جديلة وبني رومان حيث تلاقيا بظهر الدهناء , فأوقع بهم أوس وظفر بهاجية بشرا بعد أن تمكن من قتل الكثيرين منهم.
ومن الأيام التي تذكرها مصادر التاريخ والأدب ما وقع بين قبيلة عنترة العبسي والطائيين , فقد تعاقبت بينهم الغارات والحروب , والتي كان من أهمها تلك الغارة التي شنها بنو ثعلبة من بقية جديلة على بني عبس , وأدت إلى قتل عنتر بن شداد العبسي. وقد بلغ من شهرته حينذاك في أعمال الغزو والقتال شأن بعيد , حيث ظل بنو رومان الطائيين يفخرون بذلك فترة طويلة.
ومن الجدير بالذكر أن تفاخر طيء بقتلها عنتر , لم يكن مثيرا للعصبية التي عرفت بعد ذلك بين عرب الجنوب وبين عرب الشمال العدنانين , فقد أشارت المصادر إلى تحالف كل من بني جديلة مع بني شيبان والى محاربتهما عبس في ذلك الوقت.
كما يذكر ابن الاثير من أيام العرب يوم النسار , وكانت طيء قد تحالفت مع كل من اسد وغطفان على بني عامر آنذاك , فكان لقاؤهم بالنسار بين تلك الجبال التي عرفت بذلك , حيث قاتلوا بني عامر قتالا شديدا , فكان أن غضبت تميم , لما نزل بهم , فتحالفوا معهم , حتى لقوا طيء ومن حالفها في يوم الجفار بعد ذلك , فقاتلت طيء اشد ما قاتلت مع عامر يوم النسار.
ولم تكن قبائل طيء لتسكت عن هزيمتها , فقد نهض زيد الخيل بن مهلهل الطائي المشهور يومئذ , فجمع أخلاطا من بطونهم وجموعا أخرى من الصعاليك , فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من العرب , ويصف الاصفهاني نقلا عن ابي عمرو الشيباني تلك المعركة بعد أن سار إليهم زيد الخيل فيقول: فصبحهم من طلوع الشمس فاستعدوا له وفزعوا إلى الخيل فركبوا , فكان أول من غدر بهم , فلقى جموعهم من بني غنى بني اعصر فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم حلت الهزيمة ببني عامر فاستحر القتل بعد ذلك بغنى , فكان من بين قتلاهم الفرسان والشعراء.
وقد اشتهر زيد الخيل النبهاني بالشجاعة والفروسية , قبيل ظهور الاسلام , ومما يذكره الاصفهاني أن عامر بن الطفيل سيد بني عامر أغار على بني فزارة , واستاق نعما لهم كما اسر امرأة منهم , فلما أدركه زيد الخيل برز له عامر , فطلب منه رد النعم التي حصل عليها , وخيرة بين ترك الغنيمة أو قتاله , فتخلى عن الظعينة والنعم في مقابل إطلاق سراحه ، يقول الاصفهاني: فقبل زيد بذلك الشرط فجز ناصيته واخذ رمحه واخذ الظعينة والنعم فردها إلى بني بدر الفزاريين وبطبيعة الحال فما كانت غنى لتبقى على هزيمتها حيث عملت على جمع لفيف من بني عامر قبيلتها فغزوا طيئا وقتلوا وأدركوا ثأرهم منها.
ولما علمت بنو عامر بما جرى لسيدهم نحوه عن رئاستهم وأقاموا عليهم علقمة بن علاثة بدلا من ابن الطفيل , وخرجوا لقتال بني نبهان قوم زيد , ومعهم الشاعران المعروفان الحطيئة وكعب بن زهير. ولما علم زيد بذلك جمع قومه فلقيهم بالمضيق فقاتلهم وأوقع بهم الهزيمة , وتم اسر الشاعرين وقوما معهم , فطلبوا قبول الفداء فيهم.
ومن أعمال الغزو والغارة التي قامت بها قبائل طيء بعد أن أصبحت من الكثرة بمنطقة حائل , حتى صار كل بطن منهم يغزو بمفرده بعد أن غدا قبيلة مستقلة , منها ما وقع بين قبيلة نبهان وقيامها بغزوة فزارة , وقد حاربت فزارة حتى كادت الهزيمة تحل بالنبهانين لولا شجاعة زيد الخيل , وقد انضمت إلى فزارة قيس من بني سليم فهزموهم , ثم حمل زيد الخيل على فزارة بعد ذلك ومن حالفها فأوقع بهم الهزيمة , يقول زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجا وسلمى تخب نزائفا خيب الركـــــاب
جلبنـا كـل طـرف اعـوجــــي وسلهبة كحافية الغـــــراب
كنسـوف للـحزام بـمـرفقيها شنون الصلب صماء الكعاب
ومن اشهر تلك الغارات التي حدثت بين بني الغوث إحدى قبائل طيء وبين بكر بن وائل القبيلة العربية المعروفة , فقد حدث أن أغار حاتم بن عبدالله الطائي على راس جيش من قومه , واشتد القتال بينهم ولكن الهزيمة حاقت بهم وقتل منهم الكثير , كما تم اسر جماعة منهم وكان حاتم من بينهم وبقي في الأسر حتى تم فداؤه.
^----------------------
حرب الفساد بين قبائل الطائيين::
نشبت هذه الحرب بين قبيلة الغوث وبين جديلة , وتعاقبت بينهم حتى طال أمدها وبلغت مائة وثلاثين عاما حيث يذكر المسعودي إنها لم تكن حربا كسائر الحروب.
أدى ذلك إلى نزوح بني جديلة إلى بلاد الشام , وقد عرفت تلك الجهة التي نزحوا إليها بحاضر طيء , ويشير البلاذري إلى ذلك الموضع بالشام فيقول: انه بعد حرب الفساد التي وقعت بينهم حين نزلوا الجبلين فتفرق منهم سائر بني فطرة وتفرق باقون منهم في البلاد حيث لحقوا بحاصر قنسرين من إعمال حلب وخالطوا هناك الأسباط وغيرهم وتزوجوا منهم.
أما ابن حزم فهو يحدد تلك البطون التي نزحت من قبيلة جديلة الطائية من بلاد الجبلين إلى الشام فيقول: "وجلوا كلهم عن الجبلين في حرب الفساد , فلحقوا بحلب وحاضر طيء , حاشا بني رومان بن جندب بن سعد بن فطرة فبقوا في الجبلين".
وهكذا لم يبق من جديلة إلا بنو رومان بمنطقة حائل , وكان من اشهرهم تيم بن ثعلبة , وكان يقال لبنيه بعدها مصابيح الظلام ومنهم السيد المشهور اوس بن حارثة بن لأم ممن سبقت الإشارة إلى زعامته في حربهم مع قبيلة اسد وانتصاره عليهم.
وقد لعب ملك الغساسنة الحارث بن جبلة دورا في إصلاح ذات البين بين جديلة والغوث , حتى توقفت الحروب بينهما , فلما مات عادت تلك القبائل إلى حربها من جديد , فكان يوم "اليحاميم" بينهم من اشهر أيام العرب , يصف ابن الاثير أحداث هذا اليوم فيقول: فالتقت جديلة والغوث بموضع يقال له "غرثان" فقتل قائد بني جديلة وهو اسبع بن عمرو لأم.
كما شهد عدي بن حاتم هذا اليوم وكان زيد الخيل يعمل على وقف القتال والتداعي إلى الصلح بينهم يقول عدي: "واني لواقف يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذ نظرت إلى زيد الخيل قد احضر ابنيه مكنفا وحريثا في شعب لا منفذ له وهو يقول: "أي بني ابقيا على قومكما فان اليوم يوم التفاني , فان يكن هؤلاء أعماما فهؤلاء أخوال".
وقد دارت الحرب يومئذ على "مناع" إحدى مواضع أجا , حين أقبلت قبائل الغوث كل قبيلة عليها رئيسها منهم زيد الخيل وحاتم بن عبدالله الطائي الجواد , حيث التقوا بجديلة بعد اجتماعها على اوس بن حارثة , وقد اقتتلوا يومئذ قتالا شديدا فانهزمت جديلة وقتل منها الكثير.
ولم يحضر حاتم بن عبدالله الطائي هذه الحرب فكان مجاورا لبني بدر من جيرانهم آنذاك وكان من جراء يوم اليحاميم أن نزحت بقية جديلة من حائل , يقول ابن الاثير: "ولم تبق لجديلة بقية للحرب بعد يوم اليحاميم , فدخلوا بلاد كلب فحالفوهم وأقاموا معهم".
^----------------------
علاقة الطائيين بالمناذرة في الحيرة::
ارتبطت قبائل طيء في الجبلين برابطة الدم والعصبية بإخوانهم الذين نزحوا إلى الحيرة فنزلوها منذ القرن الثالث الميلادي حيث شاركوا في تأسيسها.
ويذكر ابن الكلبي أن ملك الحيرة عمرو بن المنذر عقد حلفا مع الطائيين على أساس ألا ينازعوا في أرضهم ولا يغزوا ولا يفاخروا عليهم , ولكنه حدث أن خرج عمرو لغزو اليمامة , فلم يصب منها شيئا , وفي طريق عودته , مر بمنازل طيء , فشجعه احد رجالات بني تميم زرارة بن عدس على غزوها والنيل منها قائلا له: "لا ينبغي لأي ملك إذا غزا أن يرجع ولم يصب فمل على طيء فانك بحيالها ".
استجاب الملك لرأيه , فمال إليهم فأسر وقتل منهم وغنم , فما لبث بعد رجوعه إلى الحيرة أن اخذ عمرو بن ملقط الطائي يحرض الملك على زرارة التميمي , وهكذا عملت قبائل طيء على الثأر من تميم لما جرى من زعيمها زرارة , وكان عمرو بن المنذر قد ترك ابنا له عنده , فلما شب رمى بضرع ناقته , فكان أن شد عليه احد رجال تميم فقتله وهرب.
انتهزت طيء الفرصة , وأخذت تحرض ملك الحيرة عليهم والخروج معهم حتى اقسم ليقتلن منهم مائة إن ظفر بهم , وسار في طلبهم حتى بلغ أوارة , وكان عمرو بن ملقط على مقدمة جيشه آنذاك , حيث قاتلوهم وانتصروا عليهم , وتمكنوا من اسر الكثير منهم , يقول ابن الاثير: "فأتوه (يعني الملك) بتسع وتسعين رجلا سوى من قتلوه في غارتهم فقتلهم" ، وهكذا ثأرت طيء لنفسها من تميم وصار يوم اوارة الثاني من أيام العرب المشهورة.
عادت بعدها علاقة الطائيين إلى سابق العهد من المودة والحلف مع ملوك الحيرة , فصار شيوخهم ورؤساهم يفدون إلى الحيرة فينالون من الحظوة والمكانة لديهم.
وفي عهد النعمان بن المنذر عمل كسرى فارس على إخضاع منطقة حائل في نجد لسلطانه , فأرسل إلى النعمان فاستجاب لطلبه وسيّر جيشا إليهم بعد أن شجعه احد الطائيين وهو اوس بن سعد حيث قال له: "أنا أدخلك بين جبلي طيء حتى يدين لك أهلها".
ولكن بني سنبس من قبيلة الغوث قبلوا التحدي ورفضوا دخول جيش ملك الحيرة بلادهم , فاستعدوا لمنازلة أعدائهم , كما تجهز حاتم الطائي مع قومه بني اخزم للقاء المغيرين عليهم , وكانوا يجاورون إخوانهم السنبسين من جهة الشمال , يقول حاتم في موقف اوس الطائي المتخاذل يومئذ:
و لقد بقي بجلاد اوس قومه ذلا وقد علمت بذلك سنبس
حاشا بني سنبس انهــــم منعوا زمار ابيهم ان يدنســوا
وتواعدوا ورد القرية غــــدوة وحلفت بالله العزيز لنحبـــس
وهكذا وقف بنو سنبس مع بني أخزم قوم حاتم ضد هؤلاء المغيرين فحالوا دون تحقيق السيطرة عليهم , ولم يقبلوا بالخضوع لسلطان المناذرة أو الفرس ولعل فشل النعمان في تحقيق أهداف كسرى فارس كان احد تلك الأسباب الهامة التي أدت إلى غضب كسرى , فلم يلبث أن أرسل في استدعائه إلى عاصمة ملكة بالمدائن حينذاك.
وعلى الرغم من تلك العلاقة التي كانت تربطه مع الطائيين , إلا انه عندما طلب منهم أن يمنعوه فأبوا عليه لا خوفا من كسرى ولكن لأمور سياسية أخرى ، فأقبل حتى نزل بني شيبان في ذي قار سرا حيث لقي هانئ بن مسعود الشيباني , فأودعه أهله وماله , وتوجه إلى المدائن وقد بعث ملك الفرس إليه من قيده وأرسله إلى خانقين لحبسه فيها , وكان موته قبل الإسلام فلما مات استعمل كسرى اياس بن قبيصة الطائي على الحيرة.
^----------------------
علاقة شيوخ طيء بالغساسنة::
كان يسكن بلاد الشام عناصر اغلبها عربية منذ العصور القديمة , حيث نزحت من داخل الجزيرة مثل العمورين أو التعمرين والكنعانيين والانباط , كما نزحت قبل الإسلام إليها من قبائل كلب وغسان وعذرة وجذام وغيرها, حتى صارت تكون غالبية سكان الشام.
ومن أهم القبائل التي نزحت إليها إبان حرب الفساد التي اشرنا إليها كانت جديلة التي نزحت نحو قنسرين وحلب من أرض الشام فصارت تعرف بحاضر طيء.
وكما يذكر ياقوت فتنه لم يبق من جديلة إلا بني رومان , حيث نزح جلهم إلى الشام , أما ابن الاثير فأنه يشير إلى أن البقية الباقية منهم كان نزوحها بعد هزيمتهم في يوم اليحاميم المذكور. وهكذا أقامت تلك البطون الطائية بأرض الغساسنة في الشام.
وتتضح علاقة الغساسنة مع الطائيين في الجبلين في اهتمامهم الدائم بما كان يجري بينهم من غارات وحروب , والعمل على إيقافها ومحاولة الإصلاح بينهم , فمن ذلك ما بذله الملك الغساني الحارث بن جبلة في سبيل رأب الصدع بين القبائل الطائية وقد نجح في ذلك , لكن بعد وفاته عادت الحروب بينهم.
كما تبدو العلاقة الوثيقة قبيل ظهور الإسلام بهؤلاء الطائيين , وذلك عندما اتجه كثير منهم إلى اعتناق النصرانية والتي انتشرت في بلاد الشام آنذاك , يتجلى ذلك في حديث عدي بن حاتم وقوله: "كنت ملك طيء آخذ منهم المرباع وأنا نصراني , فلما قدمت خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم هربت إلى الشام , وقلت الحق بأهل ديني من النصارى فلما قدمت الشام أقمت بها".
كما تتضح مظاهر هذه العلاقة الحسنة بالملك الغساني في قيامه بإهداء سيفين إلى الفلس صنم طيء المعروف وقد بقيا معلقين به في مكانه , حيث كان ذلك منصوبا بالحبس.
^----------------------
علاقة الطائيين بملوك كنده في نجد::
قدم حجر بن عمرو المعروف بأكل المرار إلى نجد ونزل ببطن عاقل , وكان اللخميون في الحيرة قد ملكوا من تلك البلاد ولا سيما بلد بكر بن وائل , فنهض حجر بهم وحارب اللخميين وأنقذ أرض بكر منهم , وقد استطاع أن ينتزع جانبا من تلك النوايى التي كانت تحت سيطرة اللخميين المناذرة.
سار النضر في ركاب ابنه الحارث , حيث كتب له النجاح في توسيع مملكة كنده في نجد , وبلغ من قوته انه تمكن من ضم إمارة الحيرة , وان يجلس على عرش المناذرة وذلك في النصف الأول من القرن السادس الميلادي.
وعلى الرغم من محاولته غزو بلاد الشام , إلا أنه لم يسع نحو غزو بلاد الجبلين القريبة منه , كما حاول النعمان بن المنذر وقد أصبحت سائر القبائل تهاب ملك كنده وتستنجد به , يذكر ابن الاثير انه لما أصاب بنو عامر من تميم فأنهم دعوه أن يغزو معهم , فكان أن وقع ذلك اليوم المعروف "بيوم ذي نجب" من أيام العرب.
ولما سار حجر بن الحارث ديار بني اسد بعد ذلك في جنوب جبلي طيء تمكن من التغلب عليهم فقتل الكثير من أشرافهم , واسر بعضهم , مما ترك الأثر السيئ في نفوس القوم , وعقدوا العزم على الانتقام منه , وما لبثوا أن نفذوا وعيدهم حيث تمكنوا من قتله.
وتتضح علاقة كنده مع الطائيين عندما لجأ امرؤ القيس بعد مقتل أبيه إلى قبائل العرب الأخرى لنجدته وفي مساعدته على الأخذ بثأر أبيه , والانتقام من بني اسد , وكان هؤلاء في حلف مع قبائل طيء.
فقد سار امرؤ القيس نحو بلاد الجبلين حيث نزل على المعلى بن تميم من بني ثعلبة , ثم على شيخ بني اخزم من ثعل , وبني عمه عمرو بن ربيعة من سكان أجا آنذاك.
كذلك كان نزول الشاعر الكندي المعروف على بني جرم وزعيمهم ثعلبة بن عمرو بن الغوث , وهكذا ظل يتنقل أمير كنده امرؤ القيس بين قبائل طيء وشيوخها عساه يجد عونا منهم على قتلت أبيه , ولكنة لم يوفق في مسعاه.
وعلى العكس من ذلك فقد حدث أن أغار احد أفراد بني لأم على إبله , ويذكر ابن الأثير أن الذين أغاروا على إبله قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد فأخذوها منه , وكان بنو ثعل على ما يبدو حماة إبله آنذاك , يتضح ذلك من شعره في تلك المناسبة:
تبيت لبوني بالقرية امنـا واسرحها غبا بأكناف حائـل
بنو ثعل جيرانها وحماتها وتمنع من رماة سعد ونائل
كما يتضح من رواية ابن الاثير أن الحرب وقعت بين قبائل طيء بسبب امرؤ القيس , وخاصة بعد أن انتقل إلى رجل من بني ثعل يقال له حارثه بن مر , فهو يصف موقفهم حينذاك قائلا: "وكانت أمور كبيرة , فلما راى امرؤ القيس أن الحرب قد وقعت بسببه خرج من عندهم" ، ولا شك أن الطائيين لم يكن في صالحهم إذ ذاك تقديم يد العون له , ففي ذلك ما كان يثير حفيظة المنذر ملك الحيرة عليهم فيعمد إلى غزو بلادهم , لا سيما وانه لم يكن قد مضى من الوقت الكثير عندما راح المنذر ينتقم من ملك كنده حيث التقى بهم فيما عرف بيوم "اوارة الأول"وقد وقع قبل يوم "اوارة الثاني" ، ويمكن القول بان الطائيين كانوا يعملون على حرية بلادهم وعدم وقوعها تحت سيطرة المناذرة أو غيرهم من القوى التي كانت تسعى في سبيل إخضاع المنطقة كالفرس , وذلك في أعقاب نزولهم سميراء وفيد في جوار بني اسد واستقرارهم في الجبليين منذ القرن الثالث الميلادي.